تحليل الخطاب الشّعريّ قصيدة أبي البقاء الرُّندي في رثاء الأندلس (أُنْمُوذجاً)
DOI:
https://doi.org/10.51930/jcois.2018.55.333_355الملخص
" إنّ الصّورة في الشّعر ليست إلا تعبيراً عن حالة نفسية معينة يعانيها الشّاعر إزاء موقف معين من مواقفه مع الحياة، وإنّ أي صورة داخل العمل الفنيّ، إنّما تحمل من الإحساس، وتؤدي من الوظيفة ما تحمله وتؤدّيه الصورة الجزئية الأخرى المجاورة لها. وأنّ من مجموع هذه الصّور الجزئيّة تتألف الصّورة الكلّيّة التي تنتهي إليها القصيدة. ومعنى هذا أنّ التّجربة الشّعريّة التي يقع تحت تأثيرها الشّاعر، والتي يصدر فيها عن عملٍ فنيٍّ ليست إلا صورة كلّيّة ذات أجزاءٍ هي بدورها صور جزئيّة. ولن يتأتى لهذه الصّور الجزئيّة أن تقوم بواجبها الحقيقيّ إلا إذا تآزرت جميعها في نقل التّجربة نقلاً أميناً، ومن ثَمّ فقد وجب أن يسري فيها جميعها الأحساس نفسه، ومن هنا جاءت هيمنة الصورة أو الأحساس على العمل الفني كله، ومن هنا أيضاً لزم أن تكون الصّورة وعاء الأحساس". [1]
فالصّورة الفنّية إذن هي" الوسيلة الفاعلة التي توصلنا إلى إدراك تجربة الشّاعر، والوعاء الذّي يستوعب تلك التّجربة عن طريق السّمو باللّغة، وتفتيق طاقات الكلمة، فالصّورة تنمو داخل الشّاعر مع النّص الشّعريّ ذاته، وليست شكلاً منفصلاً؛ وعليه فإن قوة الشّعر تتمثل في الإيحاء عن طريق الصّور الشّعريّة لا في التّصريح بالأفكار مجردة ولا المبالغة في وصفها..."[2]
ولقد كانت الحالة النّفسيّة هي نقطة انطلاق الشّاعر والأديب صالح بن يزيد بن صالح... بن شريف الرُّنديّ النّفزيّ الاندلسيّ، الذي اشتهر أمره في الأندلس والمغرب، وهو واحدٌ من أدباء القرن السّابع( 601/1204ه – 684/1285م)، من أبناء رُندة، وإليها نسبته، وكان – رحمه الله - فقيها حافظاً متفنناً في النّظم والنّثر، وبرع في فنون المدح، والغزل، والوصف، والزهد، إلا أن شخصيته خلدت بقصيدته ( رثاء الأندلس) التي عُرفت بتسميّات عدّة كـ ( نونية أبي البقاء الرُّندي، ورثاء الممالك الضّائعة، ورثاء المدن الزّائلة...).
وتضمّنت القصيدة ثلاثة أفكار رئيسة هي[3]:
- الاعتبار بزوال المدن والممالك وموت العظماء، والتّأسي بما جرى لهم على مرّ العصور[4]
- سقوط الدّول الأندلسيّة الواحدة تلو الأخرى في يد العدو، وما حل بأهل الأندلس من مصائب ونكبات.
- الدّعوة إلى الجهاد لإنقاذ الأندلس؛ بدعوة المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله( وفي القصيدة دعوة ظاهرة للاستنجاد بدولة بني مرين).[5]
ويتضح ذلك في القصيدة:
- يا أيّها الملك البيضاء رايتُه أدرك بسيفك أهل الكُفر لا كانوا
وقد تفرعت الأفكار الرّئيسة إلى أفكار فرعيّة كالآتي:
- (1 – 5) كل شيء إلى زوال، وحكم الدّهر جارٍ على مَنْ في هذه الدّنيا.
- (6 – 12) الاعتبار بالملوك والدّول السّالفة في التّاريخ.
- (12 – 14) نقلة من الكلام العام عن نكبات الدّهر، وتمهيد للدّخول في موضوع ( جزيرة الأندلس).
- ( 15 – 17) بداية الحديث عن نكبة الأندلس.
- ( 18 – 27 ) ذكر المدن الكبرى التي سقطت في يد العدو، وتحسر على ما أصابها.
- ( 28 – 35) الاستنجاد بملوك بني مَرين، وقبائل المغرب عامّة، والاستنصار بهم.
- ( 36 – 43 ) تصوير نكبة الأندلسيين، ومأساتهم الدّاميّة.[6]
( ونقل القصيدة – من بعد – المَقّري في كتابيه" أزهار الرّياض"، و " نفح الطّيب" وذكر أنّ زياداتٍ قد طرأت على القصيدة - بعد سقوط الأندلس نهائيا - ليست من أصلها، ويسلم للرّنديّ ثلاثة وأربعون بيتاً رواها أيضاً في الذّخيرة السّنية.[7]
ولا يخفى علينا أنّ (الرّثاء) هو فن الحزن، والبكاء، والفقد، والتّفجع، والموت، وهو عاطفة سلبيّة انهزاميّة، تحمل النّفس على الانعزال، والوحدة، والانكسار، ومدعاة للعظة والاعتبار.
وقد شاع وانتشر هذا الغرض الشّعري في المشرق العربيّ كغيره من الأغراض الشّعرية، وسرعان ما انتقل إلى بلاد الأندلس، فاحتذى فيه شعراء الأندلس نظراءهم المشارقة، ولكنّهم لم يقفوا بهذا الفن عند بكاء موتاهم، ورثاء ملوكهم، ولوعة الفراق لأحبتهم؛ بل أضافوا إليه ما تميّزوا به، فتوسعوا فيه توسّعا كبيرا، ظهر في رثاء مدنهم، وممالكهم التي سقطت أمام القشتاليين وهي كثيرة ؛ كرثاء طليطلة، وكانت أول ما أخذ من القواعد العظام*( أوردها صاحب نفح الطيب، وهي لمجهول، ورثاء بلنسية للشاعر " ابن خفاجة" ، وقرطبة، وجيّان،، وإشبلية، وغرناطة ... وتأتي نونية أبي البقاء الرُّنديّ واسطة العقد في شعر رثاء المدن، وأكثرها شهرة، وأشدّها تعبيراً عن الواقع؛ فكانت على رأس البلدان التي سقطت، ورثاها شعراء الأندلس، ( تتويجاً ) لهذا الفن، وكأنّه يصرخ معلنا أنّ ارتباط وتعلق وحب المسلمين لبلادهم ( الأندلس) التي وصلوا إليها بعد جهاد مرير ، وبذل الأرواح، وصبرهم ، ومثابرتهم لنشر الإسلام، ولغته العربيّة يكاد يفوق فقدان الأحبة، فالهويّة العربيّة الإسلاميّة المتأصلة في وجدانهم ونفوسهم، المتجذّرة في أعماقهم، وواقعهم الأليم المُرّ بانسلاخ الدّول التي سقطت عن الهوية العربيّة و الدّين الإسلاميّ، يقيناً منهم أنّها لن تعود!
ويبدأ أبو البقاء الرُّندي قصيدته ( رثاء الأندلس) بمقدمة وعظيّة حِكميّة مُوفقة مدروسة، تتفق وسياق القصيدة، و تسهم إسهاماً واسعاً في إيصال رسالة الشّاعر للمُتلقي، وتهيئته لما تحمله أبيات القصيدة من تفجعٍ، وفقدٍ،وموتٍ، وفراقٍ،... وتأتي تفاصيل الرّسالة في المقدمة التي ضمّنها الشّاعر حكماً مطلقاً ينبأ بأنّ كلّ شيء في طريقه إلى الزّوال إذا ما تمّ،( وكأن لسان حاله يقول: ليس فقط الأندلس التي ضاعت، وضاع مجدها، بل كلّ شيء مصيره إلى الزّوال والانتهاء)، وبذلك يكون قد أشغل ذهن المُتلّقي من بداية القصيدة إلى نهايتها في ترقب عموميّة الحُكم الذي أطلقه في مقدمة القصيدة، ولا نستبعد أن يكون الشّاعر أراد أن يخفف من هول الكارثة، وصدمة النّكبة على المُتلقي - في الوقت ذاته- عند تأكيده، وإقراره مبدأ الزّوال( دوام الحال من المحال) فقال:
- لكلّ شيءٍ إذا ما تَمّ نقصـــــــــانُ فلا يُغرَّ بطيبِ العيشِ إنســـــــــــــانُ
- هي الأمورُ كما شـــــــــــهدتها دُولٌ مَنْ سَــــــــــرّهُ زمنٌ ساءَتهُ أزمـــــــــــــــــــــــــانُ
- وهذه الدّارُ لا تُبقي على أحـــــــدٍ ولا يدوم على حالٍ لها شــــــــــــــــــــــــــانُ
- يُمزق الدّارُ حتماً كلّ سابغـــةٍ إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصــــــــــــــــــــــانُ
- وينتضي كلّ سيفٍ للفناء ولوْ كان ابنَ ذي يزنَ والغمدَ غُمدانُ
ولنبدأ بالبناء الفني للقصيدة:
أولاً) الموسيقى في القصيدة:
نسج الشّاعر قصيدته على ( بحر البسيط) وهو من البحور الشّعرية الطويلة، وقيل: سُمِّيَ الْبَسِيْط بهذا الاسم لانبساط أسبابه، أي تواليها في مستهل تفعيلاته السباعية، وقيل: لانبساط الحركات في عَرُوْضه وضربه في حالة خبنهما؛ إذ تتوالى فيهما ثلاث حركات. كما يمنح ( بحر البسيط) الشّاعر فرصة التّغني بآلامه وآلام شعبه جرّاء ما حدث في الأندلس، وتفعيلاته:
- مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ
ثانيا) القافية:
جاءت القافية التى اختارها الشّاعر بعد دراسة – لاشك- وعناية فائقة؛ لتتوافق مع غيرها من عناصر البناء الفنيّ للقصيدة، حاملةً لحناً خفيفاَ رقيقاً، تطرب له الآذان، وتذرف له العين من شدة الحسرة والتّأسف على ضياع الأوطان؛ فاختيار الشّاعر لقافية( النّون) وهو صوت خيشوميّ حزين منكسر، يتصاعد أثناء البكاء، وكأنّ صوت ( النّون) بصفاته الشّجيّة الحزينة الهادئة يُعدّ تنفسياً للشاعر لإخراج الكم الهائل من الألم والمرارة والحسرة الذي يصول بين جنبات نفس الشّاعر، التي تسري في امتدادٍ متصل بين نفس الشّاعر والمتلقي، الذي يصرّ الشّاعر أن يجعل منه مشاركاً في سرد الأحداث ووصفها، وليس مجرد متلقٍ يشاهد ما يحدث فقط.
ولا نستطيع أن نتجاهل صوت المد في القصيدة( ألف المد) الذي لازم القافية في كل أبياتها، وهذا الصوت عادة ما يسهم في إخراج النّفس وإدخاله، مما يُسّهل على الشّاعر ويريحه في إخراج حزنه وكمده وقهره، الذّي يصل إلى المُتلقي بسهولة ويُسر.
ثالثاً) التّصريع:
ولا يمكن لشاعرٍ بقيمة أبي البقاء الرُّندي ألا يوافق في بيته الأوّل نظراءه المشارقة الذين حرصوا على أن يُصرّعوا في مقدّمات القصائد؛ للتّنبيه على أهمّية ما يخبر به المتلّقي، وللفت انتباه المتلقي عندما يستشعر هذا الملمح البديعيّ عند قراءته، ووقوفه في الشّطر الأوّل للبيت يساوي بالضبط وقوفه في الشطر الثّاني، وما يخلفه التّصريع من عذوبة في موسيقاه تعمّق في نفس الشّاعر والمُتلقي على السّواء نغمة الحزن والكمد والقهر.
ومن المعروف أنّ نادرا ما يأتي التّصريع في وسط القصيدة، كما في قصيدة، سويد بن كاهل اليشكريّ في صدر الإسلام، وعرفه البلاغيّون أنّه: اتّفاق صمت الشّطر الأوّل مع اتّفاق صمت الشّطر الثّاني من القصيدة.
رابعاً) اللّغة:
لعبت اللّغة دوراً مهماً في توصيل رسالة الشّاعر المبدع، فجاءت لغةً مفهومة واضحة لا تحتاج معجماً، ولا تُشكّل غموضاً، أو إجهادا على ذهن القارئ، مفعمة بالعاطفة الجيّاشة التي تؤثر في وجدان المُتلقّي.
ويستمر إقراره وتأكيده في البيت الثّاني، والثّالث، في إشراك المتلّقي كجزء لا يتجزأ من الحدث، فقد شاهدت أيها المتلّقي بأم عينك أن أحداث الدّهر ونكباته تنقلب من حال إلى حال، مستخدما المقابلة ( مَنْ سرّهُ زمنٌ – ساءته أزمانُ) موضّحا تقلب الأحول ( فالدنيا تُقدم، وتُحجم- تُسرع- وتتراجع، فيومٌ معك تُسقيك من شهدها- وأيامٌ تدير لك ظهرها)، فهي دنيا فانيّة لن تبقى، فكيف نصدق أنّها ستفنى ولا نصدق أنّ مَنْ عليها سيفنى؟!
ويختتم في البيت الرّابع فكرة الحكمة، ومضمون العظة والاعتبار؛ ليسهم هذا البيت في الانتقال من فكرة إلى فكرة( حسن الانتقال).
وكان لزاماً أن يخلع الرُّنديّ ثوب الشّاعر بألفاظه وتعبيراته، ومعانيه؛ ليرتدي ثوبَ الرّسام المبدع ممسكاً ريشته ليرسم الأحداث التي مرت بالأندلس؛ متسائلاً تارة، ومخبراً تارة أخرى.
فيواصل الرّنديّ قوله متسائلاً ( تساؤلات غير حقيقيّة):
- أين المُلوك ذوو التّيجانِ من يَمنٍ وأين منهم أكاليلٌ وتيــــــــــــــــــجانُ
- وأين ما شاده شـــــــــــدّاد في إرمٍ وأين ما ساسه في الفُرْس ساسانِ
- وأين ما حازه قارُون من ذهبٍ وأين عادٌ وشـــــــــــــــــدّاد وقحــــــــطانُ
- أتى على الكلّ أمرٌ لا مـــــــــــــردّ له حتى قضوا فكأن القوم ما كانــــــــــوا
- وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلك كما حكى عن خيال الطّيْفِ وسْنانُ
- دار الزّمــــــــــــــــــــان على دارا وقاتله وأمّ كســــــــــــــــــــرى فما آواه إيوان
- كأنّما الصعب لم يسهل له سببٌ يوماً ولا ملك الدّنيا سليمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــان
ويواصل شاعرنا فكرته عن الموت، والفناء، والزّوال، فيسرد لنا أحداثاً جرت عبر التّاريخ؛ بأسلوبٍ إنشائيٍّ طلبيٍّ، غرضه (الاستفهام) غير الحقيقيّ؛ ليؤكد فكرته السّابقة بتكرار (أين) فتتوالى الأسئلة في سياق استفساريّ، والقصد ليس استفساريّاً بقدر ما هو تأكيد للزّوال والفناء، ومِن ثمّ، يكون ما أرتأيناه سابقاً صحيحاً، ألا وهو تهوين الأمر على المُتلقي؛ فالشّاعر يعلنها صراحة؛ ليخفف وطئة ما حدث في الأندلس باستقراء حوادث الدّهر التي لم تترك أمراً إلا أفنته.
وما زالت مسحة الحزن مهيمنةً على الأبيات الشّعريّة السّابقة، منبعثة من بقايا الماضي المبعثر، لا أماكن ( ارم، اليمن، الإيوان) ولا شخوص( شدّاد، ساسان، قارون، عاد، قحطان) ولا حياة، ذهب الكلّ عبر طيف الخيال. وليس مَن يتصدى الموت، فالموت و الفناء والزّوال أقوى؛ فالموت غالب!
وتشكلت موسيقى الأبيات من (رد العجز على الصّدر ) للتّأكيد على زوال أصحاب التّيجان؛ فالموت لا يعرف ملك أو مملوك، والتّرادف بين( أكاليل – وتيجان) ومن تكرار الحروف في البيت الواحد، أو تكرار بعض الصّيغ ( كالشّين في شاده، وشدّاد- والسّين في ساسه، ساسان- ومن( التّقديم والتّأخير) في( أتى على الكل أمرٌ)، والجناس بين( مُلكٍ، ومَلك)، وبين( دار ـ دارا)، والتّضاد بين ( الصّعب ـ يسهل).
أحسن الرّنديّ التّخلص بوصفه لمصائب الدّهر بأنّها منوعةٌ، فقال:
- فجائع الدّهر أنواعٌ منوّعةٌ وللزّمان مَسَراتٌ وأحــــــــــــــــــزان
- وللحوادثِ سُلوانٌ يسهلها وما لما حلَ بالإسلام سُلوانُ
ويلخّصّ الرّندي فجائع الدّهر في الحياة أنّها بين مسراتٍ وأحزان؛ فربما ما يسرّك يحزن الآخر والعكس وارد – لا شك - (ورده العجز على الصّدر) في كلمتي ( سلوان – سلوان) وعلاوة على ما يحققه التّكرار من تأكيد وإقرار، ففي الكلمتين تخفيف وتسليّة، فالله عادلٌ؛ الكرب بعده فرج، والفرح بعده كرب، والإنسان بين الأمرين؛ لا حزن يطول، ولا فرح يدوم.
ونستطيع القول أنّ الشّاعر نجح بعرضه السّابق، وتنوعه من مقطع إلى آخر في تهيئة المُتلقي، وتشبّعه بالعبر والحكم ،لإشراكه في متابعة مشاهد النّكبة وسقوط الأندلس؛ البلدة تلو الأخرى؛ ليكون هادئا صابرا محتسبا، عندما يخبره الشّاعر ما حدث:
دهى الجزيرة أمرٌ لا عــــــــــــــــــــزاء له هوى له أحــــــــــــــــــد وانهـــــــــــــــــد ثهلانُ
أصابها العين في الإسلام فارتزأت حتى خلت منه أقــــــــــــــــــــــــطارٌ وبــــــــــــلدانُ
- فاسأل بلنسية ما شأن مرســـــــــــــيةٍ وأين شاطبــــــــــــــــــــــــة أم أين جيّـــــــــــــان
- وأين قـــــــــــــــــــــــــرطبةُ دارُ العــــــــلوم، من عالم قد سما فيها له شــــــــــــــــان
- وأين حمص وما تحويه من نُـــــــــزَهٍ ونهرها العـــــــــــــــــــذب فيّاض ومــــــــــــــــلآن
- قواعدٌ كن أركان البلاد فمــــــــــــــــــــــــا عسى البقاء إذا لم تبق أركـــــــــان
- تبكي الحنيفيّة البيضاء من أسفٍ كما بكى لفراقِ الإلف هيْمـــــــــــــــان
- على ديارٍ من الإسلام خاليـــــــــــــــــــــة قد أقفرت ولها بالكفر عُمران
- حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهنّ إلا نواقيسٌ وصــــــــــــــــــــــــــــــــلبانُ
- حتى المحاريب تبــــــــــــــــــكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عـــــــــــيدانُ
( كانت/ وأصبحت) تلك هي التيمة التي سيقدّمها الشّاعر للمتلقّي الذي سيعقد المقارنة بين( كانت / وأصبحت) للمقارنة والحكم.
بدأ الشّاعر بقوله: دهى؛ فالكارثة التي حلت بالأندلس داهيّة من دواهي الدّهر، نكبة، ومصيبة من نكبات الدّهر ومصائبه التي بدت غير مصاحبة لسلوانٍ ولا عزاء، وذلك لعظمها وهولها؛ فسقط لها أحد وتهدّم لها ثهلان ليس هذا فحسب، بل خلت الأقطار والبلدان من الإسلام، ثم يبدأ في تعداد البلاد التي سقطت الواحدة تلو الأخرى، باكياً مقهوراً متسائلاً: أين شاطبة، وجيان، وقرطبة، وحمص التي كانت راية الإسلام ترفرف على أسوارها خفاقة عالية، وأصبحت خالية من الإسلام، أصبحت قفراً، فتحولت المساجدُ كنائسَ، ومن ثَمّ تحول الآذان إلى نوافيسٍ تُدق، وصلبانٍ تُرفع، بكت المحاريب، ورثت المنابر؛ فمن هول الكارثة نطق الجماد فرثى، وبكى؛ وتوظيف الشّاعر للصّوت والرؤية هنا لعبا دورا مميزا في إيصال المعنى بسماعه( سماع النواقيس وهي تدق، والمنابر وهي ترثي، ونحيب المحاريب ) ، ورؤيته( رؤية دموع المحاريب، ورؤية الصلبان وهي ترفع).
تتدرج الشّاعر في رسم صوره الجزئية، فأفرد لكل صورة مفرادتها، وأفكارها، و ألفاظها، ومضامينها، وصورتها البيانيّة المجازية، وتوالت الصّور الجزئية في البيت تلو الآخر، فالترادفات( انهد/ هوى، أقطار / بلدان)؛ وكأنّ الطّبيعة الجامدة الثّابتة عبرت عن نفسها، فخرجت من سكوتها، وسكونها، وطول صمتها ؛ مدويّة بسقوطها وانهيارها، معلنةً هول المصيبة، وشاركتها بلنسية عندما أخبر الشّاعر المتلقي أن يسألها عما حدث لجاراتها( مرسية، وشاطبة، وجيان، وقرطبة، وحمص...) فألبسها ثوب المجاز المرسل، فأنطقها؛ لتخبر وتروي ما حدث، ولذا قصد الشّاعر قصدا تكرار الاستفهامات غير الحقيقية؛ لتشير إلى انسلاخ دويلات الأندلس للهوية الإسلاميّة العربيّة، وحث المتلقّي على رصد الأماكن التي كانت منارة للعلم والحضارة؛ فأنارت الغرب بعلمها( قرطبة)، وأخرى وما حوت من متنزهات، فأصبحت كأنّها ما كانت، والتشبيه التّمثيلي الذي جمع بين بكاء الإسلام ( التشخيص) وبكاء الحبيب لفراق حبيبه، وزاد الشاعر التّضاد كملمح بديعيّ لعب دوراً في إبراز وتجسيد الخراب والدّمار الذي حل بالأندلس( فأصبحت المساجد كنائس) وما تتب على ذلك( فالأذان أصبح نواقيس تدق)، فتكاتفت الصّور الجزئية؛ لإبراز صورة كلّيّة تنبأ بهول المصيبة وفادحة الأمر؛ فلا يملك القارئ، والمتلّقي حيال ذلك؛ إلا البكاء!
ولم يعد أبو البقاء يملك إلا صرخةً مدويّة، يصل صدها إلى الأفق، صرخة استنجاد واستغاثة ونجدة (وا أندلساه)، فينادي مَنْ يعيشون وراء البحر في هدوء، وأمان، وسلام، ورغد من العيش، علّهم يهبّون لنجدتهم، فينادي قائلاً:
- يا غافلاً وله في الدّهر مَوْعــــظة إن كنت في سنةٍ فالدّهر يقظان.
- وماشيّا مرحاً يُلـــــــــــــــهِيه مَوطِنــــــــــــه أبعْدَ حِمْصٍ تَغُرّ المرء أوطانُ
- تلك المصيبة أنستْ ما تقدّمها وما لها مع طولِ الدّهر نِسْيانُ
- يأيها المَلِك البيضاءُ رايتُـــــــــــــــــــــــــه أَدْرك بسيْفك أهل الكفرِ ما كانوا[8]
- يا راكبين عتاق الخيل ضامــــــرة كأنّها في مجال السّبق عقبان
- وحاملين سيوف الهند مرهفـــــة كأنّها في ظلام النّقع نيران
- وراتعين وراء البحر في دعـــــــــــــــة لهم بأوطانهم عز وسلطان
- أعندكم نبأ من أهل أنـــــــــــدلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
- كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتزُ إنسانُ
- ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
- ألا نفوس أبيات لهم همم أم على الخير أنصارٌ وأعوان
حشد الشّاعر مجموعة من الألفاظ التي تحمل رسالة محمّلة بالآهات، والأنات،لمن يعيشون في رغد من العيش، وطمأنينة، وأمن وأمان، ألهتهم الدنيا بما فيها من مُلهيات، وملذّات، متناسيين أو ناسيين ما يجري على أرض الأندلس، ويتساءل الشّاعر منكرا( أبعد حمصٍ تَغُرّ المرء أوطان)،( تلك المصيبة التي أنست ما تقدّمها)، أناديكم... أناديكم، انصروا ، اغيثوا، انقذوا، لقد ملكتم كل مقوّمات الدافع والذود عن المسلمين، ملكتم كل أدوات القتال؛ السيوف، الخيول، المال، وفقدتم قيم الإسلام، إغاثة الملهوف، ونجدة المستغيث، ومد يد العون للمستحير؛ ماذا التّقاطع، والبعد، والغفلة، والنسيان، واللّهو، والمال، والسّلطة، ويغرق في السّؤال ألستم إخوان، ألم يعد بينكم نفوسٌ أبيات؛ تأبى الذّل، والضّيم، والقهر، أغافلين عن تقلبات الدّهر ونكباته، هذه الدّار لا تبقي على أحد، تلك الأيام ندولها بين النّاس، وتهاوت قوى الشّاعر مع خور المتقاعسين، وتباطؤ االمغيثين، ولهو اللاهين، فلا عون، ولا نصرة.
ويحط الشّاعر رحله في نهاية رحلته، محمّلا بالأسى والذّل والهوان، متجرّعاً مرارة الذّل والقهر والكمد، جاملاً أسباب السّقوط، والنّهاية الأليمة التي تجرعها كلّ صنوف الشّعب الأندلسيّ؛ الكبير والصّغير، الرّجل والمرأة، الملوك والأسياد؛ فيقول:
- يا من لذلة قومٍ بعد عزّهم أحال حالهم كفرٌ وطغيانُ
- بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عُبدانُ
- فلو تراهم حَيارى لا دليل لهم عليهمُ من ثياب الذّل ألوانُ
- ولو رأيتَ بُكاهم عند بيعْهم لهالك الأمرُ واستهوَتْك أحزان
- يا رُبَّ أمّ وطفلٍ حيل بينهما كما تفرّقُ أرواحٌ وأبدانُ
- وطَفلةٍ ما رأتها الشّمس إذ برزت كأنما هي ياقوتٌ ومرْجان
- يقُودها العِلْج للمكروه مكرهةً والعين باكيةٌ والقلبُ حيران
- لمثل هذا يذوب القلبُ من كمد إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
وكما عوّدنا أبو البقاء يفرد في صوره الجزئيّة التّفاصيل كامنة، فكلّ صورة جزئيّة تحمل تفاصيلَ عميقة في نفسها، فالذّل والهوان والكفر والطّغيان أصبح حال أهلها، وتلتحم جزيئات الصّورة مع جارتها التي تصور لنا المقابلة بين ماكانت عليه بالأمس القريب وما أصبحت فيه( ملوك/ عُبدان)، والحيرة التي ملكت قلوبهم ، ولسان حالهم يهمس ( ماذا نحن فاعلون)،وهم يتجرعون الذّل بأنواعه المنوّعة، وألوانه المتعدّدة، ويسرع الشّاعر ؛ فيطلع المتلقي على صورة بصرية تجسد للرائي بكاهم( عند بيعهم)، فتتملكه الحسرة والنّدم والتّأسف والحزن والألم والقهر؛ لهول الأمر وعِظمه، ومن أقوى ما صوّر الشّاعر بريشة الفنان؛ صورة التّشبيه التمثيليّ الذي جمع بين صورتين( صورة انتزاع الطّفل من حضن أمّه) و ( وصورة انتزاع الرّوح من الجسد)، فكلتيهما تصور، الانتهاء، الموت،التّفجّع، التّفرّق، الطّغيان، الظّلم، وكل مايدور في نفس المتلقي من سلبيّات.
والصّورة الثّانية تشارك زميلتها الأولى في الذّل والهوان والعار الذّي ألم بكل من تهاون في نصرة الجزيرة، فالمرأة( مثال الشّرف والطّهر والعفة) تُساق إلى الرّذيلة، (باكية ذليلة حيرانة )، على مرأى ومسمع الجميع، على رؤوس الأشهاد، والكل مكتوفي الأيدي، لا حول له ولا قوة.
وتأتي الخاتمة، فنجد الشّاعر يعلنها صراحة، موظفاً الاستعارة في ذوبان قلب السّامع والرائي من القهر والذّل الذي تجرعته صنوف الشّعب الأندلسيّ، مشترطاً أن تحوي القلوب الإسلام والإيمان بكل شيمه، وخصاله وصوره( الإسلام الذي دخلوا به الجزيرة الإيبريّة؛ ففتحت لهم، وارتفع الأذان، ونطقت الأركان بلغة القرآن، وعندما تركوه، سقطوا، وسقطت معاني العزّ والشّرف والإباء والأنفة، فتجرعوا مرارة الذّل والأسى والهوان).
حرص الرّنديّ من بداية القصيدة إلى نهايتها على استخدام وسائل متعدّدة ومختلفة( من ألفاظ، وسياقات بلاغيّة...)؛ للتّأثير في المتلّقي، بل إشراك المخاطَب في الأحداث؛ كي تتعمق الأحاسيس والمشاعر داخل نفسه، وتترسخ في جذور أعماقه هول المصيبة، وفداحة الأمر؛ فيستشعر الألم والمرارة، ويتجرع الذّل والمهانة، ويبكي العزة والكرامة.
نجع الشّاعر أن يقدّم للمتلقي( المخاطَب) صورة متكاملة عمّا حدث في الأندلس من خرابٍ، ودمارٍ، وضياعٍ، وسقوطٍ بألفاظه المختارة المنتقاة المأنوسة البعيدة عن الغريب تارة، وإتقان عباراته، فجاءت بعيدة عن التّعقيد تارة، علاوة على معانيه العميقة البعيدة عن الغموض، وصوره البلاغية تارة، والصّوت، واللون اللتين واكبا المعنى من أهاتٍ وأنّاتِ الأسرى، ودماء القتلى، وصوت الرّوي ( النون) الحزين المنكسر، وخيبة الأمل في البقاء والاستمرار، وعاطفة الشاعر التي سيطرت على القصيدة، وشاع فيها صدق التأثر، وحرارة الانفعال، وروعة الحماسة الدينيّة والوطنيّة؛ ولا نتجاهل أنّه من تلامذة المدرسة الخفاجية التي اعتمدت التصوير الفني؛ فكثرت الصّور البلاغية، وبريشته جاءت لغته موحية دالّة، ذات تأثيرٍ نفسيّ مباشر، فقد صورت ألفاظه القويّة الواقع القاسي الذي عانى منه أهل الأندلس بعد السّقوط.
ولاستكمال جوانب تحليل القصيدة نقف عند البنيات التركيبية وتفاعل أجزائها حيث يعد النص الوحدة اللغوية الأساسية التي تتحقق باعتبارها خطاباً في أقوال؛ واعتبار النص رديفاً للقول التام.
إنَّ نصية الخطاب تُقام على أحكام تتعلق بكلية النص لا بأجزائه، وقد اعتمد النحاة على مبادئ أساسية في قبول النص بدءاً من تعريفهم الجملة المفيدة التي هي ما يحسن السكوت عليه واعتبارها رديفاً للكلام المفيد التام في معناه، انتهاءً بأوصاف متعددة يُنبئ عنها النص من حيث الجودة أو الرداءة والكثرة أو القلة في الاستعمال........... إلخ.
واعتبر النحاة الاتساق بين أجزاء النص وتناغم المعاني والألفاظ ركيزةً أساسيةً في قبول النص لدى المتلقي مع ما يحمله من قرائنَ لفظية ومعنوية؛ وبذا يكونُ النص مبنياً على عماد صياغي أساسه البنية اللغوية وما انسجمت فيها الأجزاء وما دلت عليه من معانٍ من خلال هذا الانسجام.
ومن مظاهر الاتساق النصِّي وجود أدوات الربط، وعلامات الوقف، والاستئناف، والتكرار اللفظي، والإحالات، والتناظر بين الجمل, وجميع هذه المظاهر تقود إلى تشكيل وحدات نصية تتعدى الجملة لتشكيل هيئة النص. ومن ثم خطابيته؛ فمن شروط قيام البنية توفر المعنى والقيمة الحاملة لها؛ لأنَّ (نحو النصِّ) يعتمد على المعنى في تحقيق شرط الملاءمة الاختبارية للواقع اللغوي المتمثلة في أثر الخطاب في المتلقي؛ فالملاءمة والانسجام قيدٌ من قيودِ حد النص الذي هو متتالية منسجمة من الجمل، ومعرفة المتلقي بالأُطر المحيطة بالنص يساعده على فهم النص؛ لأنّض المتلقي هم بمثابة المعيد لإنشاء النص, وحينها مجازاً نقول إنَّ كاتب النصِّ قد أَسلمَ نصه إلى منشئٍ آخر هو المتلقي نفسه، فإذا نشأ متلقٍ جديد فهذا يعني تماهي المنشئ الأول وهنا تكمن إبلاغية وبلاغية النص في مدى تأثيره في المتلقي؛ وحينئذٍ يصبح الانسجام النصي قائماً بين القارئ والنص أكثر من قيامه بين الأجزاء المكونة للنص، وهذا الانسجام الجديد بين النص والمتلقي لا بدَّ له من حاملٍ وعمادٍ وعناصرٍ يجري بينها ليتكونَّ النص من جديد بأثره في المتلقي، وهنا يكون النص قد أدى دوره الفاعل في الخطاب الشعري لأنَّ النص عمل اجتماعي تواصلي وليس مجرد أقوال، وفي الخطاب الشعري تتحول الأقوال بحيث يعتد بها بعلاقة الوحدات اللغوية فيما بينها وبين العالم الخارجي (جو المتلقي) وتوسيع الجانب الدلالي, وهذا جميعه ينضوي تحت مهمة نحوية النص وتحليل الخطاب بموجب ذلك كله. وهذا بدوره أفضى إلى ما يُصطلح عليه بتداولية النص، أي أثر النص في المخاطب أو خطابية النص، متجاوزاً بذلك منوال الجملة إلى خلقِ مرجعٍ خارجي يُعنى بالسياق بنوعيه المقالي والمقامي ودورهما في تصريف وجوه المعاني، ومن هنا جاءت العناية بتحليل الخطاب وأشكال التواصل التداولية ونوح النص، فالنص أو الخطاب أصبح هو الوحدة الاستعمالية المقابلة للجملة باعتبارها الوحدة النظامية.
من هنا وجدت السبيل إلى تسليط الضوء على القيمة الدلالية للتراكيب النحوية وفاعلية البنى داخل تلك التراكيب بالنظر إليها مجتمعة لا مجزأة؛ لأن النص وحدة دلالية معنوية وليس وحدة شكلية وعلاقته بالجملة أو الجزء.
منها لا تعتمد حجمه بل تعتمد على الأجزاء مجتمعة، وإنجازه يعتمد على ما يقع بينها من اندماج واتساق
الذي يمثل شفرة النص وما تحيل اليه تلك العلائقيات المفضية إلى معنوية تلك العلائقيات التي تعكس هوية النص فيما بعد.
وبعد قراءتي وإمعاني النظر في قصيدة الرندي استوقفتني كثيراً بنى التقديم والتأخير الملازمة لبنى التنكير التي
تلازمت في ثلثي أبيات القصيدة، ولا يخفى على الدارس ما لهاتين البنيتين من أثر دلالي تفيده بنية التقديم والتأخير من عناية بالمتقدم وما تتفرع إليه هذه العناية من إفادةٍ للتشويق أو التعظيم أو التحسر أو التهويل إلى جانب ما تحققه بنية التنكير من إفادةٍ للشمول والعموم والى ما لانهاية من الغايات .
استهل الشاعر قصيدته بالتقديم للخبر على المبتدأ فضلاً عما قرنه من شرط مصحوبا ب(ما) الزائدة المؤكدة للمعنى.
معقباً بذلك ومقنعاً للقارئ بنهيه عن الغرور الذي يتأتى من طول السرور ورغد العيش أحياناً كثيرة فينسى المرء ما وراءه في قادم الايام، فثنائيات الكون قائمة على أنَّ لا سرور يدوم ولا حزن يطول ولا نعمة تدوم ولا عوز يستمر، مشيراً ضمنا إلى معنى قوله تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم )، وقوله تعالى: (وتلك الايام ندوالها بين الناس). وقد عزز هذا التقديم بالتنكير المفيد للعموم المطلق (نقصان، انسان، دول، زمن، ازمان، أحد، شان ....... إلخ)
وقد تنوعت أشكال بنية التقديم والتأخير بين الإسمية وما تدل عليه من الثبوت وبين الجملة الفعلية وما تدل عليه من التجدد والحدوث وبين هذه البنى من تحولات موقعية لمتعلقات الجملة الإسمية والفعلية في أكثر أبيات القصيدة.
لقد حمل كل بيت دلالة تختلف عن دلالة البيت الآخر رغم تشابه شكل البنى من حيث التقديم والتأخير والتنكير المصاحب لها ،وقد أعطى هذا التنوع الدلالي قوة للقصيدة عبرت عن إمكانية الشاعر وتمكنه من تطويع الأحداث رغم هولها وتقديمها إلى القارئ بصورة حزينة مؤثرة جدا.
ففي البيت الاول افادت بنيتا التقديم والتنكير المعضدة لها أفادت موعظة وعبرة تأسست عليها أبيات القصيدة كلها فبعد أن بلغت الأمة الإسلامية ذروة مجدها واشتد عودها أتاها الانهيار والفاجعة الكبرى ليأتي البيت الثاني ليهون من الأمر ويقنع القارئ بأن المحال دوام الحال ويؤكد هذا المعنى في البيت الثالث، ليعزز ذلك بما يسرده من قصص الأمم السالفة وما آل اليه الحال وهذا ما صوَّره في البيتين 6 و7 مستفهماً متعجباً عن دولة الملوك الذين سادوا اليمن وملكوا عزه ومجده ،وما بلغته إمبراطورية الفرس قرونا....حتى جاءت نهايتهم في (9-111-12)فكان امر الله ماضيا فيهم جميعا وإن أمر الله إذا جاء فلا مرد له. ليستأنف في البيت 13معنى البيت 2 لكن بالانتقال من الصيغة الفعلية الى الصيغة الإسمية ليمزج بينهما في البيت 14 وكأن الحالين متلازمين وهذا من سنن الكون أنَّ الأفراح والاتراح تتبادلان الأمكنة والأزمنة والشخوص. إلّا أنه وجد السلوان عن جميع ما يحل بالبشرية من مصائب لكنه لم يجد لمصيبتنا في سقوط الاندلس سلوانا لعظم المصاب وهول الواقعة. مصاب يهوى له جبل أحد العظيم وجبل ثهلان، فبعد أن كانت الأندلس دارا عامرةً بالإسلام والمسلمين أصبحت خالية من الإسلام والمسلمين يحكمها الصليبيون ويعلوها الصلبان وهذا ما ذكره في الابيات 21-22ويستمرالشاعر بتعداد مناقب المسلمين وأمجادهم ليصور فيها الحال التي آلت إليه مساجدها فأصبحت كنائس ليس فيها إلّا النواقيس والصلبان وهذه رموز النصارى بعد أن كانت محاريب للصلاة ومنابر للمساجد، ليضع القارئ أمام عبرة بالغة والدهر كله عبر ومواعظ ويستمر الشاعر في سرديته عن المواعظ المستقاة من فجائع الدهر وتغير الأحوال ليجعلها جميعا تهون أمام المصيبة الكبرى والحدث الجلل ألا و هو سقوط الأندلس حين يستفهم متفجعا(اعندكم نبأ من اهل اندلس ......)فقد حققت بنية التقديم وبنية التنكير وقعا دلاليا مثيرا التشويق في نفس المتلقي ليسرد لنا حقيقة هذ النبأ ويصف حال المهانة والهوان الذي تعرض له المسلمون هناك دون ان يأبه بهم (انسان)، وليس غريبا ما حصل، فقد فصل الشاعر أسبابه من قطيعة وتشرذم وتشتت بين صفوف المسلمين مستصرخاً النفوس الأبية والهمم العالية التي في المسلمين لكن دون جدوى (الابيات 31 حتى 34) ليجعل في الابيات (35 -36-37) من تقديم المفعول به على الفاعل وسيلة تصوير لمشهد غلب فيه الطغيان والكفر على عز المسلمين وقوتهم فحال حالهم من السيادة إلى العبودية تكسوهم ثياب الذلة والهوان ،ليختم حسرته وفاجعة المسلمين بتقديمه (لمثل هذا يذوب .......) جاعلا فاعلية الفضلة أكثر دلالة وإيحاء بحيث تتناسب وما حل بالأندلس من خراب وضياع .
ولما كان النص اتحاداً للصوت والمعنى بالخيال والفكر في أشكال تعبيرية متنوعة، فإنَّ التدفق الشعوري يزداد كلما تكثفت البنى وتنوعت أشكالها فبعد أنَّ هيمنت بنى التقديم والتأخير والتنكير على أسلوب النص نجد أيضا الجمل الاعتراضية التي فصلت بين المبتدأ والخبر، على سبيل المثال قوله في البيت الثاني (هي الايام –كما شاهدتها –دول ) فإن كانت الجمل الاعتراضية لا محل لها من الإعراب، فإنَّ قوتها الدلالية فاقت ذلك ومنحت النص إيحائية أقوى .
ثم ينتقل إلى بنية الاستفهام المشوب بالتعجب في أبياته من (6-12) التي ضمنها سرداً تاريخياً يعكس ثقافة الشاعر ومعرفته بالعصور والدهور وما حلَّ فيها من تغيرات بأحوال الدول والناس عامةً.
هذا فيض من فيض وظف فيه الشعر الوحدات الصغرى في النص ليجعلها موحيةً في تجسيد ذلك الصراع الدائر بين البشر والدول وتداول الأحداث .
ولن نقول أخيراً أو آخراً، فالنص يبقى مفتوحا على مداه الخارجي يستوحي كل صور الضياع الذي مرت به أمة الإسلام.
ويبقى الشاعر خيرَ من يصور الأحداث ويوثقها ويبقى خير شاهد على العصرِ وشعره خيرَ وثيقةٍ تاريخيةٍ تصور لنا الأحداث أصدق تصويرٍ بلا رتوش.
الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. محمد زكي العشماوي قضايا النقد الأدبي البلاغة دار الكتاب الجديد للطباعة والنشر ص 108
[2]. دراسات ونماذج في مذاهب الشّعر ونقده، دار نهضة مصر للطباعة، القاهرة، د.ت، ص 60
[3].أبو البقاء الرّندي، شاعر الأندلس د . محمّد رضوان الدّاية، مكتبة سعد الدين للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت،ص86، 1986
[5]. أبو البقاء الرّندي د. الدّاية، وكان الأمير المريني في هذا الوقت:" يعقوب بن عبد الحقّ" وهو من مشهوريهم وشجعانهم .
[6]. المرجع السّابق، وقد ذكر صاحب كتاب الذّخيرة السّنية القصيدة، وقال إنّ الرّنديّ أنشدها بعد سلسلة من التنازلات من قِبل ابن الأحمر لألفونسو ملك قشتالة سنة 665 ، ويظهر أنّ التّنازلات الإسلاميّة- تحت الضّغوط القاسيّة- كانت فادحة...
[7]. المرجع السّابق ص 150 – 160
[8].هذا البيت ساقط من نفح